لقد بلغ الاحتقار الذاتي ببعضهم، حتی نطق ببنت شفته مُقسِما بالمولی عزّ وجلّ أنّ الدنيا وخيراتها للأمريكا، وهذا لا شكّ أنه خطأ جسيم، فالدنيا لم يخلق، ولم تُخصّص نعمه للكفّار أبدا، وإنما خلق الله الدّنيا، وأوجده لأجل عبادته، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات٥٦.
إذن، بين الله تعالی أن الحكمة من إيجاد الدنيا هي العبادة، والعبادة: "اسم جامع لكلّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة" [العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص/٣٨]
والذين انقادوا لله بطاعته، والقيام بأداء المأمورات، وانتهاء المنهيات: هم المسلمون الذين استسلموا لله بطاعته، وانقادوا له بإخلاص العبادة له، وتبرأوا من الشرك وأهله.
وإذا كان الله تعالی خلق الدنيا للوظيفة العبوديّة، لا شك أن نِعمه، وخيراته خاصّة للذين يعبدونه علی الوجه المعمورة، ويؤكد هذا قوله تعالی: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ الَّتِیٓ أَخْرجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف٣٢.
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: " أي: هي - يعني نعم الدنيا وطيباته - مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدّنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسا في الدنيا، فهي لهم خاصّة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفّار، فإن الجنة محرمة علی الكافرين". انتهی.
[انظر تفسير ابن كثير للآية٣٢ الأعراف].
إذن، المسلمون هم أصحاب نعم الدّنيا وخيراته، ويشاركهم غيرهم من الكفّار فيها، وهذه الفكرة الجائرة هي نتيجة أفكار العقول التي تنظر الأشياء نظرة سطحية دون عمق، ولا تفكُّرٍ في جوانبَ أخری، سيما الجوانب التي تمسّ الديانة نتيجة جهلهم أو تجاهلهم بما جاءت به النصوص الصريحة؛ كشأن تخصيص بعضهم الأمريكا بنعم الدنيا وخيراتها؛ لقوة اقتصادهم، وتمكنهم من التطوّر، وبراعتهم في الصناعة، ونضجهم في الاستثمار والاستنتاج، الشیء الذي غرّ بعض المسلمين الذين استحكم عليهم الاحتقار النفسي، والعجب بالغير، والذي جرّ عنهم الثقة بالنفس والاعتماد عليها دون التعلق بالآخرين تعلّقا كلّيا، كما هو شأن الأفارقة مع الغرب!.
والصواب، أنّ الدنيا ونعيمه للمسلمين، ويشاركهم فيه غيرهم من الكفار والوثنين من اليهود والنصاری، وأما تقدمهم علی المسلمين في الصناعة وغيرها، قد يكون السبب في ذلك من أمرين:
*الأول*-أنّ المسلمين جعلوا الدنيا ومنافعه لغيرهم، وخصصوا لأنفسهم الآخرة؛ فتركوا الانتفاع بمنافع الدُّنيا علی الوجه الأكمل، علی أنّ ذلك هو الزّهد المنصوص عليه في قولهﷺ: "ازهَدْ فِي الدُّنيَا يُحِبُّكَ اللهُ...الخ" [رواه ابن ماجه4102. من حديث سهل بن سعد الساعدي]
ولقولهﷺ: "الدُّنيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ" [أخرجه مسلم.2956 من حديث أبي هريرة].
ولا يدلّ الحديثان علی ترك الانتفاع أو التنعم بنعم الدنيا؛ لأنّ ذلك ليس معنی الزهد؛ إذ الزهد ترك التعلق بالدنيا وإيثاره علی الآخرة، وأمّا الحديث الثاني؛ فلا يدلّ علی ترك نعم الدنيا البتة؛ لأن معنی الدنيا سجن المؤمن يعني: أن المؤمن محرم عليه فعل بعض الأشياء في الدنيا وهي ممّا تميل إليه النفوس علی وجه الابتلاء: ﴿لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾المائدة٩٤.
لكن الله حرم ذلك علی المؤمن لحكمة منه؛ مثل: الزنی، وأكل الربی، واستماع الأغاني، وقد تكون مما يضرّ بالنفس حسّا؛ مثل: تعاطي المخدرات، وغيرها مما تستنكرها النفوس الأبيّة دون الخاضعة للرذايا والدنايا!.
فطيبات الدُّنيا للمؤمنين، وهي لهم خاصّة في الآخرة، وليس كما يزعمه بعض من أشبعه الغربُ بأفكاره الوضيعة.
*الثاني:* وإمّا أنّ ذلك علی سبيل الخدمة للمسلمين بأن يصنعوا لهم الطائرات، والسيارات، والآلات البنائية وغيرها؛ لينتفع بها المسلمون خدمة لهم، ولكن سلبيّاتِ هذا أشدُّ من إيجابياته؛ حيث أن العدوّ قد يستخدم بعض ما يصنع لنا كآلة يحاربنا بها عن طريق استراتيجية غير مباشر!
ولذا، يجب أن يكون للمسلمين القوة والقدرة في صنع ما يريدونه بأنفسهم، ولا يعتمدوا علی الكفّار كليا، وإن كان التعامل معهم (الكفار) علی حدود الشرع جائزا.
لا ينبغي للمسلمين أن ينخضعوا لهذه الأفكار السامّة التي يبثها أذناب الغرب من المسلمين في نفوسهم، يجب طردها وردّها إليهم كما أتوا بها إلينا!
وهذه الفكرة(أن نعم الدنيا خاصّة للكفار) تطورت حتی تسربت إلی كيان بعض المستعربين؛ فجعلتهم يفرّقون بين الدين والسياسة، مما دفعهم إلی الرغبة عن المناصب الحكومية، وبعثت فيهم الضعف أيضا عن الاستثمار التجاريّة، وبعض الأعمال المُثْريّة، فظلوا موطّنين أنفسهم علی الإمامة في المساجد، والتدريس في المدارس، والبيع للأسوكة، والعطور، حتی ظنّ بهم ناسٌ أنهم لا ينبغي لهم التمتع بدنياهم، حتی وإني سمعت شخصا لمّا عثر علی عُلب المشروبات الفارغة في بيت، قال متعجبا: هل الأساتذة يشربون المشروبات؟!!!.
الله أكبر! وانظروا إلی عواقب هذه الفكرة ومغبّتها!.
نسأل الله أن يلهمنا الفهم بديننا الحنيف!
فما كان صوابا؛ فمن الله، وما كان خطأ؛ فمن نفسي، وعمل البشر لا يخلو من الزلل!
وصلی الله علی محمد وآله وسلم تسليما.
بقلم الطالب/ *محمد داود ماني.*
- Log in to post comments