في رحلة الحياة، قد نشعر بالوحشة والوحدة ونتجرّع كأس الانعزال حول مائدة اللاّجدوى. نمرّ بتجارب وإحباط ونواجه تحديات مختلفة، ونحمل مشاعر وأفكاراً متشتّة.
نفقد البوصلة ويموج بنا بحر الأحزان موْجا وسط الطريق.
عندما تصل إلى هذه المرحلة من الشعور باللاشيء، أوصيك بالرحلة والسفر بعيدا من هذا المكان. وأروع أنواع الرحلات: أن تجلس وحيدا خلف زاوية وتقرأ كتابا.فالقراءة بحدّ ذاتها عبارة عن رحلة ممتعة كما يقول أنيس منصور
الصفحات التي نقرأها هي أجنحة الحالمين بالطيران. بها نركب ونختزل الآفاق، لنتحلّق عاليا؛ إلى الأزمان والعصور والقرون القديمة. بالقراءة نحقق أمنيات خضراء وأحلام يانعة، إنه حلم السّفر بلا جواز ولا فيزا. حلم اكتشاف الذات وأماكن مجهولة في أرض الله الواسعة. حلم الحرية المطلقة والهروب من براثين الفساد والطغيان، لذلك نرى في صفحات التاريخ عشرات من الطغاة يحرّمون الكتب ويحرقون المكتبات. الجزّار المغولي " هولاكوخان" لم يحرق مكتبة بغداد إلا ليسرق حريّات الناس .
المطالعة هي نقيض لواقع بائس ومعبر للوصول إلى عالم آخر لا يشبه عالمنا الواقعي.
قيل لعبد الله ابن المبارك : تكثر من القعود في البيت وحدك، قال: ( ليس أنا وحدي، أنا مع النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه بينهم؛ يعني النظر في الكتب) قرأته في سير أعلام النبلاء للذهبي .
من أدمن القراءة والنزهة في عقول الآخرين يعيش حياة أخرى غير هذه الحياة العادية. يقول عباس محمود العقاد في كتابه " حياة قلم" أقرأ لأعيش حيوات أخرى فهذه الحياة فقط لا تكفي.
المطالعة سياحة روحية إلى أعماق الكون والزمان. لذلك نرى من السلف الصالح من كان يقرأ كتابا واحدا أكثر من مائة مرة. لأنه في كلّ قراءة يكتشف فضاءات وعوالم أخرى..
ذكر تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقات الشافعية الكبرى عن الربيع المزني، تلميذ الشافعي رحمه الله. قال : أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة ، ما أعلم أني نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئا لم أكن عرفته.
الامام النووي نازعه رجل في كتاب الوسيط لأبي حامد الغزالي فقال : تنازعني في الوسيط وقد قرأته 400 مرة..
رأيت الامام السَّخاوي في ترجمة عَبدِ الَّلطيف الكرمَانيّ الحنفي يقول" وممن أخذ عنه الزين قاسم والشمس الأمشاطي وحَكى لي عنه أنه سمعه يقول: طَالعت كتاب (المحيط ) للبرهاني مائة مرة.
قال الفارابي : قرأت السماع الطبيعي لأرسطو أربعين مرة ، وأنا محتاج إلى معاودته.
أخي العزيز! إذا أردت أن تكتشف مالم يكتشفه ابن بطوطة في رحلاته الممتدة ولا كريستوف كولوبوس في طريقه لاكتشاف قارة أمريكا..وترى مغامرات وقصص لم تأت في وفيات الأعيان لابن خلكان، وتستخرج من أرض "باتاغونيا " ما لم يجده الكاتب الانجليزي بروس تشاتوين، وإذا أردت أن يكون لك "تلسكوب" ترى به العالم والأزمان والعصور فعليك بالعكوف في بطون الكتب..واقرأ وربك الأكرم .
السماوي
- Log in to post comments